يحدث بين اللغات ما يحدث بين أفراد الكائنات الحية وجماعاتها من احتكاك وصراع وتنازع على البقاء وسعي وراء الغلب والسيطرة وتختلف نتائج هذا الصراع باختلاف الأحوال فتارة ترجح كفة أحد المتنازعين فيسارع إلى القضاء على الآخر مستخدماً في ذلك وسائل القسوة والعنف ويتعقب فلوله فلا يكاد يبقى على أثر من آثاره وتارة ترجح كفة أحدهما كذلك ولكنه يمهل الآخر ينتقص بالتدريج من قوته ونفوذه ويعمل على إضعاف شوكته شيئاً فشيئا حتى يتم له النصر وأحياناً تتكافأ قواهما أو تكاد فتظل الحرب بينهما سجالاً ويظل كل منهما في أثنائها محتفظاً بشخصيته ومميزاته.
وينشأ هذا الصراع عن عوامل كثيرة أهمها عاملان: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله، وثانيها أن يتحاور شعبان مختلفا اللغة فيتبادلان المنافع ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي.
1. العامل الأول من عوامل الصراع اللغوي؟
نزوح عناصر أجنبية إلى البلد: قد يحدث على أثر فتح أو استعمار أو حرب أو هجرة أن ينزح إلى البلد عنصر أجنبي ينطق بلغة غير لغة أهله فتشتبك اللغتان في صراع ينتهي إلى إحدى نتيجتين فأحياناً تنتصر لغة منهما على الأخرى فتصبح لغة جميع السكان: قديمهم وحديثهم أصيلهم ودخيلهم وأحياناً لا تقوى واحدة منهما على الأخرى فتعيشان معاً جنباً الجنب.
بعض الحالات التي يحدث فيها تغلب إحدى اللغتين وتحدث النتيجة الأولى وهي أن تتغلب إحدى اللغتين على الأخرى فتصبح لغة جميع السكان أصيلهم ودخيلهم في الحالتين:
الحالة الأولى: أن يكون كلا الشعبين همجياً قليل الحضارة منحط الثقافة ويزيد عدد أفراد أحدهما عن عدد أفراد الآخر زيادة كبيرة ففي هذه الحالة تتغلب لغة أكثرها عدداً سواء أكانت لغة الغالب أم المغلوب لغة الأصل أم الدخيل وذلك أنه عند انعدام النوع يتحكم الكم في مصير الأمور، ولكن هذه النتيجة لا تحدث إلا إذا كانت اللغتان المتصارعتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربيتين.
الحالة الثانية: أن يكون الشعب الغالب أرقى من الشعب المغلوب في حضارته وثقافته وآداب لغته وأشد منه بأساً وأوسع نفوذاً ففي هذه الحالة يكتب النصر للغته فتصبح لغة جميع السكان وإن قل عدد أفراده عن أفراد الشعب.
2. العامل الثاني من عوامل الصراع اللغوي؟
تجاور شعبين مختلفي اللغة: لابد أن يحصل احتكاك بين لغتي شعبين متحاورين بل لابد أن تدخل اللغتان في صراع يؤدي إلى إحدى نتيجتين من النتائج السابق ذكرها في العامل الأول: فإما أن تنتصر إحداهما وتصبح لغة مشتركة للشعبين وإما ألا تقوى إحداهما على الأخرى فتعيشا جنباً الجنب.
أ- وتنتصر لغة أحد الشعبين على الأخرى في حالات منها: إذا كان أحد الشعبين أقوى من الآخر وأكثر نفوذاً ولا يقل عنه حضارة وثقافة وإذا كانت كثافة سكان أحد الشعبين أعلى منها في البلد المحاور مما يؤدي إلى ضغط تزايد السكان لهذا البلد على الشعب المحاور فيؤدي احتكاك الشعبين بل اللغتين إلى تغلب لغة الشعب الكثيف شريطة ألا يقل عن ذلك حضارة وثقافة وآداب لغة وقد يستغرق هذا الانتصار عدة قرون تماماً كالذي حصل لدى انتصار لغة قريش على اللغات المصرية الأخرى غير أن اللغة المنتصرة كلغة قريش هنا تتأثر في بعض مظاهرها وبخاصة في مفرداتها بلغة الآخرين كما أن الكلمات الدخيلة إلى لغة قريش ينالها بعض التحريف في حروفها ومعانيها وأساليب نطقها فتختلف بذلك عن شكلها القديم.
ب- وقد لا تقوى إحدى اللغتين على الأخرى فتعيشان سوياً فيما عدا الحالتين السابق ذكرهما ورغم ذلك فإنهما تتأثران ببعضهما وتتبادلان المنافع ويحصل الاحتكاك بين اللغتين في حالات أخرى منها: إذا دخل الشعبان المتحاربان في حروب طويلة أو إذا كانت العلاقات التجارية بينهما جيدة فتنقل كلمات كثيرة بانتقال المنتجات بينهما كما يتم هذا الاحتكاك إذا قامت بين الشعبين علاقات ثقافية فتنتقل إلى لغة الكتابة آثار كثيرة فيها انتقال الأساليب.
وقد انتقل إلى لغة الكتابة العربية في العصر العباسي الكثير من آثار اللغتين اليونانية والفارسية وقد انتقل أيضاً الكثير من آثار اللغات الأوروبية في العصر الحاضر إلى اللغة العربية.
وإن هذا البحث أقرب إلى العطور اللغوي منه إلى الصراع بين اللغات وأدت فتوحات العرب بعد الإسلام إلى امتزاج العرب واحتكاكهم بكثير من الشعوب وقضت قوانين الصراع اللغوي أن تصرع العربية اللغات الثلاث :الآرامية، والقبطية، والبربرية وبلغ الآن عدد المتكلمين بالعربية ما يزيد على مائة مليون شخص ولكن العربية قد تأثرت بغيرها كالسريانية وتأثرت بالقبطية والبربرية ولا سيما باللهجات العامية كذلك فقد أثرت كل من العربية والفارسية في الأخرى سواء في المفردات أو في الأساليب ولكن أثر العربية في الفارسية كان أوسع نطاقاً من أثر الفارسية في العربية وقد حصل احتكاك بين العربية والأوروبية سواء كان ذلك إبان الحروب الصليبية أو في الوقت الحاضر بسبب انتشار الثقافة الأوروبية ونشأت فنون جديدة كالفن التمثيلي وما إليه وانتقل إلى العربية الكثير من المفردات الأوروبية في مصطلحات العلوم والفنون وغيرها فازدادت بذلك ثروة العربية.
اختلاف اللهجات في البلد الواحد؟
اللهجات المحلية والاجتماعية؟
تختلف اللهجات في الأمة الواحدة تبعاً لاختلاف أقاليمها وما يحيط بكل إقليم منها من ظروف وما يمتاز به من خصائص وقد جرت عادة علماء اللغة أن يطلقوا على هذا النوع من اللهجات اسم اللهجات المحلية وتختلف هذه اللهجات بعضها عن بعض اختلافاً كبيراً في المساحة التي يشغلها كل منها فمنها ما يشغل مقاطعة كاملة من مقاطعات الدولة، ومنها ما تضيق منطقته فلا تشمل إلا بضع قرى متقاربة ومنها ما يكون وسطاً بين هذا وذاك وكثيراً ما تخلف هذه المناطق اللغوية في حدودها عن المناطق المصطلح عليها في التقسيم الإداري والسياسي.
وحول اللهجات المحلية يقول الدكتور على وافي: تتشعب أحياناً لغة المحادثة في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة إلى لهجات مختلفة تبعاً لاختلاف طبقا الناس وفئاتهم فيكون ثمة مثلاً لهجة للطبقة الاريستوقراطية وأخرى للجنود، وثالثة للبحارة، ورابعة للرياضيين، وخامسة للنجارين، ويطلق المحدثون من علماء اللغة على هذا النوع من اللهجات اللهجات الاجتماعية تميزاً لها عن اللهجات المحلية أعلاه ويؤدي إلى نشأة هذه اللهجات ما يوجد بين طبقات الناس وفئاتهم من فروق في الثقافة والتربية ومناحي التفكير والوجدان ومستوى المعيشة وحياة الأسرة والبيئة الاجتماعية والتقاليد والعادات وما تزاوله كل طبقة من أعمال تضطلع به من وظائف والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها.
ومن الواضح أن هذه الفوارق وما إليها من شأنها أن توجه اللهجة في كل طبقة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها فلا تليق أن تتشعب اللهجة العامة إلى الهجات تختلف كل منها عن أخواتها في المفردات وأساليب التعبير وتكوين الجمل ودلالة الألفاظ وما إلى ذلك.
ويزداد في العادة انحراف اللهجة الاجتماعية عن أخواتها كلما كثرت الفوارق وبين الطبقة الناطقة بها وبقية الطبقات أو كانت حياة أهلها قائمة على مبدأ العزلة عن المجتمع أو على أساس الخروج على نظمه وقوانينه ولا تظل اللهجات جامدة على حالة واحدة بل تسير في السبيل الارتقائي نفسه الذي تسير فيه اللهجات المحلية.
وتؤثر اللهجات المحلية في لغة المحادثة العادية فتستعير منها هذه اللغة كثيراً من التراكيب والمفردات وأهم أنواع اللهجات الاجتماعية ما يسمونه باللهجات الحرفية وهي التي يتكلم بها أهل الحرف المختلفة كالنجارين والنقاشين والصيادين والبحارة، وتتميز اللهجات الحرفية بعضها عن بعض تمييزاً كبيراً في المناطق التي يسود فيها ونظام الطوائف حيث تختص كل طبقة بحرفة أو وظيفة خاصة كما هو الحال في بلاد الهند.
اختلاف لهجة الرجال عن لهجة النساء؟
تختلف لهجة الرجال عن لهجة النساء اختلافاً كبيراً أو بسيطاً في بعض الشعوب التي يقل فيها اختلاط الرجال بالنساء أو يعيش فيها كل من الجنسين بمعزل عن الجنس الآخر تحت تأثير النظم الدينية أو التقاليد الاجتماعية ويزداد هذا الانفصال اللغوي كلما ازداد الانفصال بين الجنسين.
المشكلة اللغوية؟
لا شك أن اللغة العربية تعيش في هذه الحياة بوصفها عنصراً إنسانياً وتحاول اللغة أن تماشي الزمن وتراعي ارتباطها بقواعد الصرف والنحو وهو ارتباط أساسي وقديم.
وإذا كانت الأمم تعنى بلغاتها وتعمل على ترقيتها فإن الأمة العربية لا تقل شأناً أو عناية بلغتها عن غيرها غير أننا نواجه مشكلة طالما تناولها المفكرون بالبحث وتتضح المشكلة في أن العرب في هذا العصر لا يتكلمون بالفصيح من العربية فالعامي الدارج هو المستعمل كما أن في العامي بحد ذاته مشكلة أيضاً فهناك لهجات مختلفة باختلاف البلاد ثم إن البلد الواحد يشتمل على لهجات وطرق في التعبير مختلفة أيضاً وربما صعب على العربي من شمال العراق أن يفهم من قروي سكن الأهوار في جنوب العراق.
ويرى الدكتور أنيس فريحة أن مشكلتنا اللغوية هي مشكلة كل شعب مزدوج اللغة فإننا تفكر ونتكلم ونغني ونتمتم في صلواتنا ونناغي أطفالنا وتهمس في آذان من نحبهم ونتفاهم مع من نرغب في التفاهم معهم بلغة محكية سلسة سيالة لا تعوق الفكر ولا تتطلب منا جهداً ولكن عندما نقف مواقف رسمية كأن يكون أحدنا معلماً أو واعظاً أو محامياً أو محدثا في الإذاعة أو محاضراً في قاعة الدرس علينا أن نتلبس شخصية لغوية ثانية علينا أن نتكلم لغة غريبة عن لغة الحياة معقدة شديدة الإحكام في التركيب والتعبير إذا فكرنا، وإذا تصورنا وإذا فكرنا فإننا نفكر بوساطة اللغة وفي مثل هذه الحال، عوضاً عن أن ينصرف الجهد العقلي إلى الفكر ينصرف إلى الشكل الذي تعبر فيه عن الفكر أي تصبح اللغة مخدومة لا خادمة، ولا تظن أننا الشعب الوحيد الذي قر في هذا الطور طور ازدواج اللغة فإن هناك أمماً حية معاصرة وأمماً من الماضي البعيد قرت في هذا الطور وعانت ما نعانيه مثل الإغريق الرومان الهنود وغيرهم كثير ولكن الغلبة في هذا الصراع بين لغة الحياة ولغة الكتاب كانت أبداً للشعب ولكن الفارق بيننا وبين هذه الشعوب المزدوجة اللسان ينحصر في أمرين:
أولاً : أنهم حلوا المشكلة باعترافهم أن لغة الحياة هي اللغة الصحيحة الفصحى واعترافهم هذا رفع اللهجة المحكية إلى مرتبة اللغة الرسمية.
ثانياً: لم تكن مشاكلهم عويصة معقدة مرتبطة بقضايا الدين والأدب كما هي الحال عندنا وتنحصر مشاكل اللغة العربية الأساسية في أربعة أمور
أ- وجود لغتين مختلفين عامية وفصحى.
ب- تقييد الفصحى بأحكام شديدة يقصد النحو ولهذا فإننا بحاجة إلى كتب لتيسير النحو وتقريبه إلى أفهام الناس.
ج- الخط العربي الخالي من الحروف المصوته الحركات وهذا يجعل عملية القراءة أمراً عسيراً وإننا الشعب الوحيد الذي يجب أن يفهم ليقرأ بينما جميع شعوب الأرض تقرأ فتفهم.
د- عجز العربية عن اللحاق بالعلم والفنون وذلك لأن معظم هذه التعابير الجديدة والمصطلحات المحددة لم تكن يوماً عن المعجم العربي وها هي ذي جامعاتنا تعلم العلوم والفنون بلغة أجنبية لأن تعليمها بالعربية أمر عسير.
وإذا كان من المفيد والضروري تسهيل الفصحى وتقريب العامة والارتفاع بها نحو الفصحى فإن مشروعاً كهذا متعلق بالزمن ويرتبط بنشر العمل والثقافة بين أبناء الشعب الواحد حتى يتيسر الجميع أبناء الشعب قسط من العلم والمعرفة وذلك يعمل على رفع مستوى اللغة المستعملة المحكية والتي هي بوجه عام قريبة من الفصحى.
يقول الدكتور إبراهيم السامرائي: ونستطيع أن ندلل على قربها من الفصيحة إذا نظرنا إلى اللغة التي يستعملها المثقفون اليوم في محادثاتهم وفي استعمالاتهم اليومية فهي لغة في مجموعها تكاد تخلو من اللفظ العامي الدخيل فمجموعة ألفاظها على العموم فصيحة ويبدو قربها من الفصيح إذا وازنا بين هذه اللغة التي يستعملها المثقف واللغة التي يستخدمها سائر أفراد أسرته والتي هي موغلة في العامية الدارجة ولابد من التأكيد بأن اللغة العربية الفصيحة احتفظت بظاهرة الإعراب وهي من صفات العربية الموغلة في القدم، في حين أن سائر اللغات السامية، عدا الأكدية قد فقدت الإعراب منذ أقدم العصور.